الجمعة، 4 نوفمبر 2016

ضياع الشعير في روث الأنعام

المشكل يطرح بشدة مع استعمال الشعير المستورد، الشعير الأمريكي أو ما يسمّى ب "رْوِيزَة" في الأسواق المغربية، أمّا الشعير المحلّي (البلدي) فلا.

هذه هي السنة الثانية على التوالي التي تعرف تأخر الأمطار الخريفية بالمغرب، ممّا يضر بزراعة القمح والشعير (الزراعات الشتوية)، خصوصا في مناطق البور (غير مسقية والتي تعتمد فقط على التساقطات). ومع هذا الجفاف وقلة القَطر - نسأل من الله الغوث، أصبح من الصعب إيجاد الشعير البلدي بثمن يسمح باستعماله كعلف للماشية، وصار جل النّاس يلجؤون إلى ذلك الشعير المستورد.

والكل يعلم أن هذا النوع من الشعير، عندما يقدّم على طبيعته (على شكل حبوب) للبهيمة، فإننا نجد في روثها كمية منه، ليست بالهيّنة، تخرج تماما كما دخلت، تذهب هباء دون أن تُمضغ أو تجترّ أو تهضم أو تستفيد منها الدابّة. وهناك من المتخصصين من يحدد هذه الكمية التي تضيع في 20%، وتتضارب الأقوال في هذه النسبة وحيَل المربيين كذلك للتقليص منها.

أشهر الحيَل هي تكسير حبّات الشعير بواسطة آلة طحن خاصة. وهذا التكسير لحبة الشعير له أنواع مختلفة باختلاف الآلات المستعملة والنتيجة المترقبة في النهاية. نذكر منها نوعا واحد يسمى في بعض مناطق المغرب ب "التشريد" أو "التجريد".

ومن خلال هذه العملية، تخرج حبات الشعير مسطحة وكأنها تلقت ضربة مطرقة، ثم تعبّأ في الأكياس، ثم تخزّن في انتظار تقديمها للماشية. وبهذا يظن أغلب المربّين أنهم قد توصلوا إلى حل ناجع يضمن الإستفادة الكاملة للبهيمة من الشعير.
 
وهذه العملية لها تكلفة طبعا، تضاف إلى ثمن الشعير وتكاليف النقل، ورغم ذلك فإنّها ليست خالية من المتاعب والتدابير. لأنّنا عندما نكسّر ونفجّر حبة الشعير، فإنّنا بذلك نمزّق غلافها الوقائي الذي من دوره حماية العناصر المغذية والمركبات الكيميائية داخلها، ونجعلها عرضة للتفاعلات مع المحيط الخارجي وعوامل الطبيعة، من هواء وجراثيم وفطريات وطفيليات.

{ هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }
 سورة لقمان - الآية 11

حبة الشعير تلك التي يُستهان بها ولا يلقى لها بال، هي في الحقيقة كائن حي في سبات. وفيها من التقنية والتعقيد والأسرار ما يُذهل عقول الباحثين والعلماء. فإذا كان ظن أغلب العامة أن "التكنلوجيا" هي آخر ما صمّم من الهواتف النقّالة مثلا، أو الطائرات والأسلحة القتّالة، فوالله إن "التكنلوجيا" في تلك الحبة الصغيرة من الشعير تفوق بآلاف آلاف الأشواط، كل ما صمّمته عقول البشر و صنعته أيديهم. فإذا كنّا نعاني الأمرّين بسبب تطوير مادة البلاستك مثلا، والتي صارت عبئا في مهب الريح تلوث كل مكان، فما بالكم فقط بالغشاء الخارجي لحبة الشعير، الذي يحفظ ذلك الكائن الحي في سباته لعقود طويلة، حتى إن شئت ادخرته أو بِعته، وإن شئت أنبتّه ونمّيته وإن شئت أكلته أو أطعمته دوابّك.
 
فمباشرة بعد خروج الشعير من آلة الطحن (أو التكسير أو التسطيح) فإنّه يصبح شعيرا محوّلا، له مدّة صلاحية محدودة (وقصيرة جدا بالمقارنة مع حبات الشعير التي يمكن حفظها لعقود)، تستلزم تسجيلها على أكياس التعبئة وتسجيل تاريخ الإنتاح أيضا، وذلك رغم كونها ليست موجهة إلا للإستهلاك البهائمي. لأنّه كما قلنا من قبل، فإن حبة الشعير تحتوي على بعض العناصر الطيّارة القابلة للتبدّد في الهواء والإندثار، وعناصر أخري قابلة للأكسدة والتلف. فالقيمة الغذائية لهذا الشعير المحوّل مباشرة بعد طحنه وتحويله، مختلفة عن قيمته بعد شهرين من تخزينه في الظروف العادية (عرضة للهواء ولدرجات الحرارة).
فما قيمة ما ضاع من هذا الشعير إذًا؟ وما قيمة ما بقي فيه؟ والثمن هو هو، إن لم يكن أكثر بسبب مصاريف السحق والتخزين والضرائب.

إذاً فإنّه ليس من الصواب بمكان أن نحاول تقليص خسائر نراها بأعيننا ويمكن تقديرها، بإحداث خسائر جديدة لا مرئية هذه المرة، ويصعب حُسبانها.
 
ولكن قبل كل شيء، نتساءل: 
  • ما سبب خروج كل هذه الكمية من الشعير المستورد كاملة في الروث دون الشعير البلدي؟ 
  • وكيف لهذا الشعير أن تفلته الأسنان والتخمر في المعدة والإجترار وسائر أعضاء الجهاز الهضمي، ليخرج تماما كما دخل؟
هناك من يقول أن السبب هو في الكمّية المفرطة من الشعير المستورد الذي تتلقّاه البهائم. وهناك من يقول أن السبب هو في الشكل الخاص لحبة الشعير المستورد، أو في حجمها الأصغر قليلا من حبّة الشعير البلدي.
ولِم لا يكون السبب هو في تعديل وراثي محتمل، تَسلّط علي حبّات الشعير هذه لتبيت سلاحا بيولوجيا، جزء منها تهضمه البهائم ثم يتحول في لحمها ثم يأكله البشر بأكلها، والجزء الآخر تنثره البهائم في روثها هنا وهناك، لتصبح، من حيث لا يدري لا الراعي ولا الرعية، عمّالا متطوّعين يزرعون ويسمّدون ولا يريدون جزاء ولا شكورا؟

المهمّ، إلى أن يفرّجها الله سبحانه وتعالى، وينزل الغيث الذي يعين العباد على إنتاج الشعير البلدي الذي نعرفه والذي ورثناه عن الأجداد، والذي يعفينا من كل هذه المتاعب، سنبيّن طريقة نافعة بإذن الله، للتقليل من ضياع الشعير المستورد في روث الدواب:
  • أولا، تحديد كمية الشعير الذي تحتاجه البهيمة دون تفريط ولا إفراط. 
وهذا يستلزم المعرفة الدقيقة لأحتياجاتها حسب حالتها الإنتاجية (مثلا نعجة مرضع أو حامل أو فارغة.. فالأمر يختلف. أو ثور مستريح أو يعمل في التزاوج أو في الحقل..) وسنّها ووزنها، إلى آخره من العوامل المتحكمة في حساب حجم التغذية اللازمة.
يوجد طرق حساب ومعادلات (تدرّس في المعاهد) لتقدير احتياجات البهيمة، وهي تعتمد على دراسات وتجارب سابقة وضعت كقواعد وعلى جداول للقيمة الغذائية لمختلف المواد والأعلاف.
والتجربة لدى المربي تمنحه أيضا خبرة دقيقة دون كثرة حسابات أو شهادات.
وفي النهاية، فإن الفحص اليدوي من حين لآخر، عن طريق ملامسة البهيمة باليد وتحسس عضلاتها وعظامها، يبقى هو الأهم لتأكيد نتائج الحسابات والتقديرات، وتصحيحها إذا اقتضى الأمر.
وهذا كلّه في الواقع ليس بذاك الأمر السهل. ويبقى سعي المربّي وطموحه مستمران في البحث عن أدق نقطة يحقق فيها مقولة: لا ضرر ولا ضرار، بمعنى: "عقلنة استعمال الأعلاف" أو تحقيق أفضل إنتاج بأقل تكلفة وبدون أي تبذير أو مصاريف غير لازمة.

  • ثانيا، وهذا سهل للغاية ولكنّه ليس ضروريا بل يبقى اختياريا، تنقيع الشعير في الماء طوال الليل (من 6 إلى 12 ساعة).
بعدما قدّرنا الكمية من الشعير التي تناسب احتياجات البهيمة، نضعها في دلو ثم نفرغ عليها من الماء حتى يغمرها ويغطيها ويعلوها. يلزمنا تقريبا 900 مليلتر من الماء لكل 1 كيلوغرام من الشعير. كلما تركنا الشعير في الماء لساعات أكثر، كلما ازدادت نسبة الرطوبة فيه بامتصاصه لهذا الماء، إلى حين أن يتشبّع الشعير فلا يستطيع استعاب المزيد من الماء. وتكون حبة الشعير المنقّعة منتفخة وقد زاد حجمها ووزنها، ورطبة وليّنة يسهل كسرها. وهذا بالضبط هو المراد.

  • ثالثا وهذا هو الأهم، تقديم الأعلاف الخشنة (ذات الألياف الطويلة كالتبن والبرسيم والفصة والعشب وسائر الشجر وأوراقه وسيقانه) للبهيمة أولا قبل الشعير، حتى إذا افترشت كمية وافرة منها داخل المعدة، وقبل أن تركَن للإجترار، يتمّ تقديم الكمية المناسبة من الشعير. 

ملاحظة هامة: الشعير المنقّع يحتوي على نسبة رطوبة عالية قد تصل إلى 90% في حال تركناه في الماء حد التشبّع المطلق. أمّا الشعير قبل التنقيع فلا تتجاوز نسبة الرطوبة فيه 13%، وإلا فإنّه شعير رديئ يصعب حفظه لمدة طويلة، لأنّه غالبا ما يُحدث مشاكل أثناء التخزين (يُثير الحشرات والفطريات). إذاً عندما نقدّر كمية الشعير (وزن أو حجم) المناسبة لاحتياجات البهيمة، ثم نقوم بعملية التنقيع في الماء، فإن هذه الكمية من الشعير تزراد وزنا وحجما بحسب كمية الماء التي امتصّتها خلال فترة التنقيع.
فإذا تركنا الشعير حتى تشبّع تماما وبلغت الرطوبة فيه نسبة 90% بعدما كانت 13% قبل التنقيع فإن:
 90% - 13% = 77% (الماء الذي يكون قد امتصه الشعير حتى تشبع)
وبالتالي: 1 كيلوغرام شعير = 1.77 كيلوغرام شعير مشبّع
والله أعلم.
       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق